• 2022-08-16

المنهج النبوي في المحافظة على الصحة العامة

الوضوء وأهميته العلمية والصحية (2/2)

تناولنا بالشرح في العدد الماضي الأهمية العلمية والصحية للوضوء بصورة عامة، ثم عرّجنا إلى موضوع الأهمية العلمية والصحية من غسل الوجه، وكذلك الأهمية العلمية والصحية من غسل اليدين إلى المرفقين. ونعلم أن الوضوء لم يكتمل بعدُ عند هذه الخطوات، لذلك سنواصل في هذا المقال البحث في الأجزاء الناقصة التي لم نتناولها، مثل غسل الرجلين إلى الكعبين، والأنف والأذن وما إلى ذلك.

الأهمية العلمية والصحية في غسل الرجلين إلى الكعبين
نعلم اليوم أن القدمين تُعدان من أكثر أجزاء الجسم تعرُّضًا للملوِّثات والغبار المليئة بالكائنات الدقيقة والطفيليات الصغيرة وما إلى ذلك، فمثل هذه الكائنات بأنواعها المختلفة يبلغ عددها بالملايين في كل سنتيمتر مكعب من الهواء، وهذا يعني أن القدمين اللتين تطآن الأرض تتسخان بكل هذه الكائنات حتى وإنْ كانتا داخل الحذاء والجورب، وكذلك تتسخان بإفرازاتهما الجلدية من عرق، علماً بأن باطن القدمين مكان تحتشد فيه غدد العرق، ودهون وأملاح وخاصة في المواسم الحارة، مما يؤدي إلى انبعاث رائحة كريهة ويؤدي أيضاً إلى الإصابة بأمراض جلدية ومنها التهابات ما بين الأصابع، والإصابة بداء القدم الفِطري وخاصة الذين يعانون من مرض السكر. وأن تدليك القدمين عدة مرات في اليوم من الشروط الصحية المتناهية في الحكمة!!
وتشير إحدى الدراسات إلى أن رئيس الاختصاصيين في العلاج الطبيعي بمستشفى الملك فيصل بالدمام بالسعودية وهو د. إيهاب أمين أشار إلى أن أكثر المناطق التي تعيد للإنسان حيويته وطاقته تحدث عند تدليك اليدين والقدمين مصداقًا للقول المأثور (إن راحة جسمك تبدأ من القدمين)، وهذا هو الطب القديم الذي تمت إعادة اكتشافه حديثًا باسم (شياتسو) الذي هو عبارة عن تمثيل خريطة لأجزاء الجسم في القدم، فوُجِد أنه بتدليك هذه المناطق تحصل المساعدة في حل الكثير من المشكلات الصحية في الجسم.

الأهمية العلمية والصحية في غسل الأنف
يمكن لنا تشبيه الأنف بمصفاة دقيقة تعمل في تنقية الهواء الذي يدخل إلى الصدر عبر عملية الشهيق، إذ تعْلَق الشوائب وذرَّات الغبار التي يُملها الهواء، بما ينبت في الأنف من الشعر، وتتكون بطانة الأنف الداخلية من نسيج مخاطي رطب ولزج، وهو فخ قوي تلتصق به الأحياء المجهرية التي تؤذي البدن إنْ هي تسربت إليه ودخلت فيه كالطفيليات والكائنات الدقيقة وغيرها.
ويُعدُّ المخاط وما شابهه من مفرزات وسوائل تتراكم في نسيج الأنف الداخلي وسطًا نموذجيًا لنمو البكتيريا والأحياء المجهرية الأخرى، ولعمليتي الاستنشاق والاستنثار دور مهم في تخفيف تراكم تلك السوائل، إذ تقومان بإزالة ما تجمَّع منها في تجويف الأنف أولاً بأول، وبذا يعمل الاستنشاق والاستنثار كلاهما معاً على التخلص مما تراكم في الأنف من مواد مخاطية، وما التصق بها من غبار وكائنات دقيقة؛ مما يؤدي إلى تجديد الطبقة المخاطية وتنشيطها لتقوم بوظيفتها الحيوية على أتم وجه. وإذا ما علمنا أن أكثر الأمراض انتشاراً بين الناس كالزكام والأنفلونزا والتهاب القصبات إنما تنتقل إلى الإنسان عن طريق الرذاذ الذي يخرج من المريض بواسطة الهواء الذي يمر عبر الأنف أدركنا أهمية الدعوة النبوية للالتزام بعمل الاستنشاق والاستنثار مع كل وضوء.
ولبيان حقيقة هذا الأمر فقد أثبت العلم الحديث بعد الفحص الميكروسكوبي للمزرعة الميكروبية التي أجريت للمنتظمين في الوضوء ولغير المنتظمين أن الذين يتوضأون باستمرار قد ظهر الأنف عند غالبيتهم نظيفاً خالياً من الميكروبات، ولذلك جاءت المزارع الميكروبية التي أجريت لهم خالية تماماً من أيِّ نوع من الميكروبات، في حين أعطت أنوف من لا يتوضأون مزارع ميكروبية ذات أنواع متعددة وبكميات كبيرة من البكتيريا الكروية العنقودية الشديدة العدوى، والكروية السبحية السريعة الانتشار، والبكتيريا العضوية التي تسبِّب العديد من الأمراض. كما وثبت كذلك أن التسمم الذاتي يحدث من جراء نمو الميكروبات الضارة في تجويفي الأنف، ومنهما إلى داخل المعدة والأمعاء ومن ثم إحداث الالتهابات والأمراض المتعددة ولاسيما عندما تدخل الدورة الدموية.

الوضوء بين الإسباغ والسرف
نحسب أن هناك بون شاسع ما بين مصطلح (إسباغ الوضوء) و(السرف في الوضوء)؛ فمصطلح (إسباغ الوضوء) يعني إتمام الوضوء وإكماله، والمقصود به هنا المبالغة في غسل أعضاء الوضوء وإيصال الماء إلى أجزائها، مع مراعاة أحكام الوضوء، والعمل بالمستحبات والسنن والآداب الواردة.
ومن الجدير بالذكر إن إسباغ الوضوء سنه مؤكدة، بل وحث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها تفيد الجسم، سواء من حيث النظافة والتدليك، وهي عبادة راقية جدًا لأن بعد الوضوء عادة ما يدخل المسلم في عبادة عظيمة وهي الصلاة والتي هي صلة بين العبد وربه. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث النبوي الشريف عن أبي هريرة رضى الله عنه "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ".
أما السرف، فهو ثقافة خاطئة ينبغي تصحيحها على جميع الأصعدة، حيث أن الشريعة الإسلامية نهت عنه بصورة مطلقة، والسرف في الوضوء والغسل هو استهلاك الماء زائدًا عن المقدار الذي ترتفع به الحاجة ويتم به الوضوء أو الغُسل حتى ولو كان الماء متوفرًا وغير شحيح، ذلك لأن الإسراف أمر لا يحبه الله في شتى جوانب الحياة الفردية والاجتماعية حتى في الوضوء والغسل اللذين هما من شروط الطهارة والصلاة. فقد ورد أن النّبيّ صلَّى اللَّه عليه وسلم مرّ بسعد وهو يتوضّأ، فقال: "ما هذا السّرفُ‏ يا سعد" ؟ قال: أفي الوضوء سرفٌ ؟، قال: "نعم، وإن كنتَ على نهرٍ جارٍ".
هذا وقد كان الحديث عن الإسراف بمياه النهر الجاري، فما بالنا ونحن في هذا العصر الذي أصبح العالم يعاني من شح المياه وقلّتها، مما قد تتسبب – كما تشير العديد من الدراسات – في حروب قادمة – لا قدر الله - ونزاعات بين الدول على حقوقها وحصتها في المياه.
ومن جانب آخر، فإن كان السرف والإسراف في استهلاك المياه غير مقبولين بصورة عامة في الحياة، فما بالنا ونحن نتحدث عن الوضوء والإقبال على الصلاة بين يدي الله سبحانه؟ ترى كيف يكون وقد استهلكنا من الماء أكثر مما كان ينبغي في ظل هذه الظروف العالمية التي تهدد مخزون المياه العالم؟ وفي ظل التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية التي باتت حديث الدول الكبرى والإعلامي العالمي صار من المهم إعادة التفكير في الكثير من عاداتنا في التعامل مع المحافظة على المياه حتى حين نستخدمها من أجل العبادة والصلاة.
هذه بعض الملامح السريعة لأهمية الوضوء، في الطهارة والمنهج النبوي. وبالله التوفيق.

آخر أخبار الدكتور زكريا الخنجي

  • بروتوكول وآداب تناول الطعام

    2022-12-20

    عندما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لتناول الطعام مرة وجد أن يد الصحابي الغلام (عمر بن أبي سلمة) رضي الله عنه تطيش في الإناء، فقال صلى الله عليه وسلم بكل هدوء ومن غير غضب أو زجْر بهدف تعليم الغلام وتعليم الأمة واحدة من أهم آداب تناول الطعام وخاصة ...

  • الشذوذ الجنسي وكارثة العصر

    2022-10-16

    نستشعر من الأحاديث النبوية الشريفة تشدُّد النبي صلى الله عليه وسلم وتجريمه وإنكاره بذكر اللعن من الله في موضوع تشبُّه الرجال بالنساء وبالعكس ، كما نلمس حرصه صلى الله عليه وسلم على محاربة بوادر هذا الأمر لما قد يفضي إليه في عدد من الأحاديث النبوية الش...

  • الاستنجاء من البول والغائط

    2022-09-17

    قد نصاب جميعنا بالقُرْف عندما نتحدث عن موضوع البول والغائط، ولكن هل نعتقد أنه من قبيل الصدفة أن يُطلَب منك عيِّنة من البول أو البراز عندما يريد الطبيب الكشف عن بعض الأمراض التي تعانيها ؟ في دراسة لنيل درجة الماجستير بعنوان (الوقاية الصحية في السنة ا...

  • الوضوء وأهميته العلمية والصحية (1/2)

    2022-07-15

    ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ"، وعندما فسر الإمام النووي معنى الطهور في كتابه (المجموع شرح المهذب) قال: "وأما الطهارة في اصطلاح الفقهاء فهي إزالة حدث أو نجَس أو ما في معناهما وعلى صورتهما"، وبن...

  • السواك ونظافة الفم والأسنان

    2022-06-16

    وجدت مجموعة من الدراسات أن الثِّقَل الميكروبي الذي يعيش في الأحوال الطبيعية بالفم متعدد الأنواع ومختلف الأشكال والأحجام، إلا أنه وُجِد أن فم الجنين وحتى الوليد في لحظاته الأولى قبل أن يتناول الطعام أو أن يشرب الحليب عادة ما يكون خالياً من البكتيريا، ...